الأربعاء، 26 فبراير 2014

أصل المشتق

هناك خلافًا بين علماء البصرة وعلماء الكوفة للإجابة على هذا السؤال، فالبصريون يرون أن أصل المشتقات إنما هو المصدر، والكوفيون يرون أن أصل المشتقات هو الفعل، ولكلٍ من الفريقين أدلته وحججه على ما ذهب إليه.
نبدأ أولًا بأدلة البصريين: استدل البصريون بأدلة كثيرة ذُكرت في كثير من كتب الخلاف (الإنصاف في مسائل الخلاف) لأبي البركات الأنباري، و(التبيين عن مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين) و(في أسرار العربية) وفي غيرها من الكتب التي عُنيت بالحديث عن هذا الخلاف، وبذلك نكتفي هنا بذكر أهم أدلة البصريين على أن المصدر هو أصل المشتقات:

الدليل الأول: أن الاشتقاق إنما يراد لتكثير المعاني، وهذا المراد لا يتحقق إلا في فروع، فالفضة مثلًا من حيث هي فضة لا صورة لها، فإذا صيغ منها خاتم، أو مرآة، أو حلية ما كانت تلك الصورة مخصوصة، وفيها ما في الأصل وزيادة، ففيها مادة الفضة وزيد على هذه المادة الصورة الجديدة التي ظهرت في هذه الصيغة، فهي فرع على المادة المجردة؛ إذن الفرع فيه الأصل وزيادة، والمصدر يدل على مجرد الحدث، أما الفعل فدلالته مركبة، فهو يدل على الحدث والزمان معًا، البسيط -الذي هو المصدر- أصلٌ للمركب؛ لأن الفعل يدل على ما يدل عليه المصدر وزيادة، وهذا دليل فرعيته على المصدر.
الدليل الثاني: أن المصدر من قبيل الأسماء، وهو يستغني عن الفعل، أما الفعل، فلا بد له من مصدر، وما يكون مفتقرًا إلى غيره ولا يقوم بنفسه أولى بالفرعية على ما لا يكون مفتقرًا إلى غيره.
أما الكوفيون: فذهبوا إلى أن الفعل هو الأصل للمصدر وغيره، واستدلوا على ذلك بثلاثة أدلة:
الدليل الأول: أن المصدر يُحمل على الفعل في الصحة وفي الاعتلال، فيصح المصدر إذا صح فعله مثل قولهم: جاور جوارًا، فالمصدر جوار على الرغم من أن الواو فيه وهو الحرف الثاني بعد الجيم، هذه الواو قد سُبقت بالكسرة قبلها والألف بعدها، وكلاهما عدوة للواو؛ الكسرة من جانب والألف من جانب آخر، ومع ذلك صحت الواو في هذا الاسم؛ لأن الفعل واوه أيضًا لم تعتل، فقالوا: جاور، وكأن الواو في المصدر إنما صحت ولم تغير؛ لأن الواو في الفعل كانت كذلك، فكأن المصدر حُمِلَ على فعله في الصحة، وأيضًا قالوا: لاوذ  لواذًا أي: لاذ بعضهم ببعض، لاوذ الواو في الفعل سلمت من الإعلال، فإذا ذهبنا إلى المصدر وجدناه لواذًا، أيضًا الواو في المصدر سلمت من الإعلال على الرغم من أنها سُبقت بكسرة ولُحقت بألف، وكلاهما يعد عدوا للواو، ومع ذلك سلمت في المصدر وصحت فيه حملًا على سلامتها -أي: صحتها- في الفعل، وأيضًا المصدر يعتل لاعتلال فعله مثل قولهم: قام قيامًا، فالمصدر قيام أصله قوام، وهنا أُبدلت الواو ياءً لوقوعها عينًا لمصدر فعل أُعلت فيه، فالفعل قام أصله قوم تحركت فيه الواو وانفتح ما قبلها؛ فقلبت ألفًا، فكأن الواو لم تسلم في الفعل؛ ولذلك لم تسلم في المصدر أيضًا، وهكذا حُمِلَ المصدر على فعله في الاعتلال.
وقالوا: صام صيامًا، أيضًا كلمة صيام أصلها صوام وقعت الواو عينًا لمصدر فعل أُعلت فيه -أي: أعلت في الفعل- وقبلها في المصدر كسرة وبعدها في المصدر ألف، قالوا: إن الواو في المصدر قد أُعلت -أي: غُيرت- بإبدالها ياءً حملًا على إعلالها في الفعل بإبدالها ألفًا؛ لأن الفعل صام أصله صوم، أيضًا تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فكون المصدر يُحمل على فعله في الساحة والاعتلال دليل على أن الفعل إنما هو الأصل.
والدليل الثاني الذي استدل به الكوفيون على أصالة الفعل للمشتقات: عمل الفعل في المصدر، فالفعل يعمل في المصدر، يقول مثلًا: صبر صبرًا فصبرًا هنا مفعول مطلق- قالوا: إنه منصوبٌ على المصدرية وعامله الفعل، قالوا: ومن المعلوم أن رتبة العامل قبل رتبة المعمول، والعامل هو الفعل، والمعمول -أي :المعمول فيه- إنما هو المصدر مما يدل على أن الفعل إنما هو أصلٌ لهذا المصدر، قالوا أيضًا: إن المصدر يُذكر أحيانًا لتوكيد الفعل، تقول: قمت قيامًا، وفهمت فهمًا، فقيامًا وفهمًا مصدران كل منهما جاء مؤكدًا لفعله، قالوا: ولا شك أن رتبة المؤكَد قبل رتبة المؤكِد.
والصحيح ما ذهب إليه البصريون لقوة حججه وضعف حجج الكوفيين، ومن هنا رد البصريون حجج الكوفيين الثلاثة؛ فذكروا أن متابعة المصدر للفعل صحة واعتلالًا ليس للأصالة والفرعية، إنما هو لطلب التشاكل؛ ليسير الباب على سنن واحد وليطرد على وتيرة واحدة؛ حتى لا تختلف تصاريف الكلمة، قالوا -أي البصريون-: قد يحدث هذا بين الأفعال نفسها بعضها ببعض والأمثلة على ذلك كثيرة، فمثلًا قال العرب: أعد، أعد مضارع الفعل وعد، ونعد أيضًا مضارع الفعل وعد، وتعد مضارع الفعل وعد، نلحظ هنا أن الواو التي هي فاء الكلمة قد سقطت في هذه الأفعال ثلاثة المضارع المبدوء بالهمزة، وفي المضارع المبدوء بالنون، وفي المضارع المبدوء بالتاء، فإذا أردنا أن نعرف ما سر حذف فاء الماضي في المضارع في هذه الأفعال، لعرفنا أن السر ينبع أساسًا من الفعل يعد، فوعد مضارعها المبدوء بالياء يعد أصله يوعد، هنا حدثت علة تصريفية تقتضي حذف الفاء؛ لأن يوعد وقعت الواو بين عدوتيها -كما قالوا- سبقتها الياء ولحقتها الكسرة، وقعت بين الياء من جانب والكسرة من جانب آخر -الياء قبلها والكسرة بعدها- ومن ثَمّ وجب حذفها في المضارع يوعد؛ فيقال: يعد، ثم وجدناهم يطردون ذلك في الأفعال المضارعة الأخرى المبدوءة ببقية أحرف "أنيت" وهي: الهمزة، والنون، والتاء، فأعد أصلها أوعد حذفت فيها الواو أيضًا على الرغم من أنها لم تقع بين عدوتيها؛ لأنها مسبوقة بهمزة مفتوحة، والمضارع نعد أصله نوعد حُذفت فيه الواو أيضًا على الرغم من أنها لم تقع بين عدوتيها؛ لأنها مسبوقة بالنون المفتوحة، والمضارع تعد أصله توعد حُذفت فيه الواو أيضًا على الرغم من أنها لم تقع بين عدوتيها؛ لأنها سبقت بالتاء المفتوحة، فلماذا حذفت الواو في هذه الأفعال الثلاثة المبدوءة بالهمزة، والمبدوءة بالنون، والمبدوءة بالتاء.
العلة في ذلك: الحمل- أي: حمل هذه الأفعال على الفعل المضارع المبدوء بالياء- وهكذا حُملت الأفعال على فعل، ولا يقال في مثل هذا مثلًا: إن الفعل يعد هو أصل هذه الأفعال الثلاثة على الرغم من هذا الحمل، وإنما فعلوا ذلك ليسير الباب على سنن واحد وليطرد على وتيرة واحدة.
وكما قال العرب أيضًا: يكرم، ونكرم، وتكرم، وهذه الأفعال الثلاثة ماضيها أكرم، وهو فعل ثلاثي مزيد بهمزة، وجدنا أن همزة الماضي قد سقطت في الأفعال الثلاثة المضارعة يكرم، ونكرم، وتكرم، قالوا: إن الأصل يؤكرم ونؤكرم وتؤكرم، فإذا سألنا: لماذا سقطت الهمزة -أي: همزة الماضي- في هذه الأفعال المضارعة الثلاثة؟
لو سألنا لعرفنا أن الجواب: إنما حذفت الهمزة في هذه الأفعال الثلاثة حملًا على حذفها في أكرم، وأكرم أيضًا فعل مضارع، قالوا: لأن أصل أكرم أؤكرم، استثقل العرب اجتماع همزتين في بداية هذا الفعل؛ فحذفوا همزة الفعل الماضي استثقالًا لاجتماع همزتين في أوله، ثم طردوا ذلك في بقية أنواع الفعل المضارع المبدوءة بأحرف أخرى غير حرف الهمزة على الرغم من أن الهمزة في هذه الأفعال لم تجتمع مع همزة أخرى، وإنما كان حذف الهمزة في بقية الأفعال المضارعة حملًا على حذف الهمزة في المضارع المبدوء بهمزة، وهكذا حُمل الفعل على الفعل، ولم يقل أحد: إن الفعل المبدوء بهمزة -أي: المضارع المبدوء بالهمزة- هو أصل لهذه الأفعال الثلاثة، وإنما كان هذا الحمل أيضًا ليسير الباب على سنن واحد وليطرد على وتيرة واحدة؛ حتى لا يحدث اختلال في تصاريف هذه الكلمة أو هذه الكلمات.
ثم قالوا بالنسبة للدليل الثاني: إن عمل الفعل في المصدر لا يدل على أصالة الفعل، فمثلًا الحروف تعمل في الأسماء وتعمل في الأفعال، ولم يقل أحد: إن هذه الحروف العاملة في الأسماء أو إن هذه الحروف العاملة في الأفعال هي أصل للأسماء أو أصل للأفعال.
وبالنسبة للدليل الثالث قالوا: إن توكيد المصدر لفعله لا يدل على أصالة الفعل وفرعية المصدر، فمثلًا لا يقال في نحو: جاءني زيدٌ زيدٌ، قد تكرر ذكر زيد والثاني قالوا: إنه توكيد لفظي، ولم يقل أحد: إن الاسم الأول هو زيد الأول هو أصل لزيد الثاني، أو تقول: رأيت زيدًا زيدًا، لم يقل أحد: إن الثاني فرع على الأول.
وبذلك عرفنا أن الأرجح في هذا الخلاف هو ما ذهب إليه البصريون من أن المصدر هو الأصل للمشتقات جميعها، وليس الأمر كما قال الكوفيون: إن أصل المشتقات هو الفعل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق